الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
اللهم اجعلنا مع هؤلاء مع الكفاية ولا تجعلنا من أولئك ولا من الذي يقول:
قال ردا عليهم أيضا: {وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ} أيها الناس {بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى} أي تقريبا مرضيا واسم الموصول واقع على الأموال والأولاد جميعا لأن جمع التكسير يستوي فيه عقلاؤه وغير عقلائه في حكم التأنيث ولأن المجموع منها بمعنى جماعة فلذلك صح الإفراد فيه والتأنيث {إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحًا فَأُولئِكَ} هم المقربون عند اللّه الحائزون على رضانا لا المتولون الجاهدون أنفسهم بجمع الحطام فمثل هؤلاء المؤمنين الذين دعموا إيمانهم بالأعمال الصالحة {لَهُمْ جَزاء الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا} فيضاعف لهم الواحد بعشرة إلى سبعمئة وإلى ما شاء اللّه {وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ} الطبقات العالية من الجنان يسكنون منعّمون {آمِنُونَ 37} من كل هائل وشاغل في مقعد صدق عند مليك مقتدر {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي} إبطال {آياتِنا} ويفسدون في الأرض معاندين لنا يحسبون أنفسهم {مُعاجِزِينَ} لا نقدر عليهم فائتين من عذابنا سابقين قدرتنا {أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ 38} من قبل ملائكتنا لا يجديهم ما عولوا عليه ولا ينفعهم ما أمّلوه {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاء مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شيء} في وجوه البر والخير وصلة الرحم {فَهُوَ يُخْلِفُهُ} من فضله الواسع {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ 39} لأن رزق السلطان جنده والسيد مملوكه والرجل عياله من رزق اللّه تعالى أجراه على يدهم، وقد يكون في رزقهم منّ ولا منّ في رزق اللّه.وهذه الآية بخلاف الآية الأولى لأنها كانت ردا على الكفرة وهي عامة وخالية من الضمير بعد كلمة {يَقْدِرُ} ومن كلمة {لِمَنْ يَشاء} وهذه خاصة ومقيدة بلفظ من عباده وبالضمير ولشخص واحد باعتبارين والضمير فيها وإن كان بموقع المبهم إلا أن الآية الأولى خالية منه وذكره بعد مشتملا عليه كالقرينة على إرادة التخصيص فلا تكرار لأنها مساقة للوعظ والتزهيد في الدنيا والحض على التقرب إليه تعالى بالإنفاق والأولى مساقة للرد على الكفرة.روى مسلم عن أبي هريرة قال: «قال اللّه تبارك وتعالى يا ابن آدم أنفق أنفق عليك».وعنه: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان يقول أحدهما اللهم أعط منفقا خلفا ويقول الآخر اللهم أعط ممسكا تلفا».وعنه: «ما نقصت صدقة من مال وما زاد اللّه عبدا بعفو إلا عزّا وما تواضع أحد للّه إلا رفعه».قال تعالى: {ويوم نحشرهم جميعا} المستضعفين والمستكبرين وأوثانهم {ثمّ نقول للملائكة} لأنهم من جملة المعبودين على غير علم منهم ولا رضى {أَهؤُلاء} الكفرة {إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ 40} في الدنيا استفهام تقريع وتبكيت. {قالُوا سُبْحانَكَ} لم يوالونا ولم نوالهم وإنا وإياهم من جملة عبادك {أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ} فنتبرأ إليك يا ربنا مما يفترونه علينا ويلصقون بنا ما ليس لنا به علم ولا حق والحق يا سيدنا إنهم لم يعبدوننا {بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} الشياطين الذين زينوا لهم عبادتنا فعبدونا طاعة لهم وخيّلوا لهم صورنا فصورونا على ما شاءوا من حيث لم يروننا وصاروا يعبدون تلك الصور بزعمهم أنها صورنا، ولهذا صار {أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ} بأولئك الشياطين {مُؤْمِنُونَ 41} مصدقون أنها صور الملائكة.
وقال بعضهم إن المراد بالباطل هنا إبليس أي انه لا يبدي لجماعته خيرا ولا يعيده لهم وانه لا يخلق أحدا ابتداء ولا يعيده إذا مات لأن الباطل هو الصنم الذي لا ينفع ابتداء ولا يضرّ انتهاء وما جرينا عليه أليق بالمقام وأنسب بالمقال واللّه أعلم.ولما قال الكفرة إلى محمد صلى اللّه عليه وسلم قد ضللت بتركك دين آبائك أنزل اللّه ردا عليهم بما فيه تقرير الرسالة أيضا بقوله: {قُلْ} يا سيد الرسل لهؤلاء الزائغين الطائشين {إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي} ويكون وباله عليها لأن النفس الكاسبة للشر الأمارة بالسوء تنال جزاءها، وهذا من باب التقابل لمثل كلامهم وإلا فالضلال عليه محال ولذلك جاء بأن التي هي للشك ونسب الضلال للنفس لأنها مجبولة على السوء {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} من الحق الذي شرفني به والتوفيق الذي منحني إياه {إِنَّهُ سَمِيعٌ} لأقوالي مجيب لدعائي {قَرِيبٌ 50} مني ومن خلقه أجمع لا يخفى عليه شيء من أحوالنا فيجازي الضال منا ويثيب المهتدي إذا شاء، ثم التفت إلى حبيبه وخاطبه بقوله عزّ قوله: {وَلَوْ تَرى} يا حبيبي {إِذْ فَزِعُوا} هؤلاء الضّلال عند بعثهم من قبورهم وقد غشيهم الخوف والوجل وأخذتهم الدهشة وصاروا بحالة لا يعلمون ما يفعلون ولا يعون ما يتكلمون ولا يعرفون ما يشاهدون ولا يدرون أين يذهبون، وإذ ذاك {فَلا فَوْتَ} لأحد منهم من اللّه ولا نجاة من عذابه ولا مهرب من عقابه ولا خلاص من حسابه {وَأُخِذُوا} من قبل ملائكة العذاب {مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ 51} من الأرض من تحت أقدامهم أو من الموقف الذين هم عليه وسيقوا إلى جهنم وزجّوا فيها جماعات ووحدانا لرأيت أمرا مزعجا أهابك مرآه وشيئا فظيعا وددت أن لا تراه {وَقالُوا} وهم في العذاب وقد عرفوا أن عقابهم هذا بسبب عدم الإيمان بك وبكتابك وبربك {آمَنَّا} الآن {بِهِ} بذلك كله وطلبوا العودة إلى الدنيا ليقروا بإيمانهم لديك، ولكن فاتهم هذا إذ تركوه وراءهم {وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ} لهذا الإيمان في الآخرة وقد فات وقته في الدنيا ولا يمكن العودة إليها ليتمكنوا من تناول ما يريدونه {مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ 52} عنها إذ لا بعدا أبعد مما بين الدنيا والآخرة وكان تناول الإيمان في الدنيا قريبا منهم فأهملوه، والتناوش هو التناول عن قرب بسهولة قال الراجز: وقال بعضهم إن التناوش أرادوا به الرجوع إلى الدنيا واستدل بقول الأنباري: أي رجوعها، وعليه فلا مانع من تأويل التناوش هنا بالتئاول أيضا ويصح المعنيان أي كيف يتمكنون من تناوش الإيمان {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} في الدنيا لمّا كان ذلك ممكنا وقد جحدوه بطوعهم ورضاهم في الدنيا {وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ} أي يقولون رجما بالغيب بأن محمدا كاذب وأن اللّه لم ينزل كتابا عليه وأن للّه شركاء وأن الأوثان التي يعبدونها تنشفع لهم وأن لا بعث ولا حساب ولا عقاب وأن الملائكة بنات اللّه وأن محمدا ساحر كاهن وأنه لا جنة ولا نار وقولهم هذا {مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ} 53 عن الصدق وهو ناشىء من جهلهم باللّه ومن مجرد ظنهم الفاسد ووهمهم الخائر، والمراد بهذه الآية تعظيم ما كانوا عليه من الكفر والتكذيب لمحمد صلّى اللّه عليه وسلم على ما هو عليه من الصدق والأمانة ولأن كفرهم بشيء لا يعلمونه كالبعث بعد الموت وما بعده من أمور الآخرة وقد غرتهم الدنيا بشهواتها {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ} الآن من الرجوع إليها ليؤمنوا ويصدقوا بما جاءهم به نبيهم ويوحدوا اللّه ويتوبوا مما كانوا عليه ويعملوا صالحا ليتمتعوا بالجنة ذات النعيم الدائم كغيرهم من المؤمنين، وقد أنهكهم الندم على ما فاتهم في الدنيا من الإيمان الذي سبب حرمانهم من النعيم وأوصلهم إلى عذاب الجحيم، واللّه تعالى يعلم أنه لو أجاب طلبهم لما فعلوا، قال تعالى: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} الآية 28 من الأنعام المارة، لهذا لم يجب طلبهم وفعل بهم فعلا فظيعا {كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ} نظرائهم من الكفار إذ لم يقبل طلب أحد منهم ولا إيمانه ولا توبته ولا تأخير العذاب عنه {مِنْ قَبْلُ} في الدنيا حال يأسهم منها ولم يؤخر اللّه عذابا نزل على أحد ولم يقبل توبته حال اليأس أو البأس إلا قوم يونس في الدنيا راجع الآية 98 من سورته المارة تقف على الأسباب الداعية لذلك.أما في الآخرة فلا يجاب طلب أحد ما من ذلك كله أبدا لأنهم جنوا على أنفسهم بإضاعة الفرصة بالدنيا وقد أخبروا فيها من قبل أنبيائهم أن لا مجال في الآخرة بقبول شيء من ذلك البتة حيث {إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ} من وجود هذا اليوم ولم يصدقوا الرسل به بل كانوا في ريب {مُرِيبٍ 54} لشدة إنكارهم وجحودهم وعدم التفاتهم إلى نصح الرسل واتهامهم لهم بالكذب فكان جزاؤهم اليوم على أفعالهم في الدنيا لا دافع له ولا مؤخر وقد جف القلم به فتقطع أفئدتهم من سماع هذا الكلام ويكثر صياحهم في النار وحسرتهم على تفريطهم.هذا، ولا يوجد سورة مختومة بهذه اللفظة غير هذه، هذا واللّه أعلم وأستغفر اللّه، ولا حول ولا قوة إلا باللّه العلي العظيم، وصلى اللّه وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه. اهـ.
|